راسبوتين اللغز...القديس الفاسق أم الدجال الشيطان!
ترجّل راسبوتين، الراهب الخاص بالقصر الإمبراطوري والطبيب المعالج لولي العهد الأمير ألكسي بأبهة من عربته الفخمة أمام قصر الأمير فيليكس، الذي هرع لاستقباله بحفاوة، فهو يعلم ما الذي سيحدث إن غضب راسبوتين.
قاده إلى قاعة الطعام الدافئة والمريحة، ذات مساء من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1916، وهناك اجتمع حول المائدة 4 نبلاء يتصدرهم راسبوتين، وهم عضو مجلس الدوما فلاديمير بوريشكينيس، والدوق ديمتري بافلوبينس، ابن عم القيصر وبالطبع المضيف الأمير فيليكس، زوج ايرينا ابنة أخ القيصر.
تحولت الجلسة بسرعة إلى الضحك والمجون، واقترح الأمير فيليكس على راسبوتين أن يتذوق حلوى كانت أعدتها إحدى الخادمات الجميلات، التي ما فتئت تدخل وتخرج للقاعة بينما يتبعها راسبوتين بنظرات نهمة، فلم يفق شهوة الحكم داخله سوى حبه للنساء، واستغل هذا الأمراء لإيقاعه في المصيدة.
لكن مهلا، أي مصيدة ولماذا يتآمر الامراء على راسبوتين رغم مكانته الهامة في القصر؟
السبب واضح، وهو انه منذ قدومه، احتل راسبوتين المكانة الفضلى لدى القيصر نيقولاي الثاني وزوجته ألكسندرا وأصبحت له الكلمة العليا حتى على الجيش والإمبراطورية، حتى أن فلاديمير بوريشكينيس، ألقى مرة خطابا هاجم فيه راسبوتين وألكسندرا، قال فيه: “إن وزراء الدولة تحولوا إلى دمى متحركة يمسك خيوطها بقوة راسبوتين وألكسندرا، العبقرية الروسية الشريرة والإمبراطورة التي بقيت ألمانية وغريبة على روسيا وشعبها”.
هذا الحقد الداخلي والصراع على المناصب في أواخر عهد روسيا القيصرية، والذي أدى إلى أوضاع اجتماعية واقتصادية كارثية، إضافة إلى هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى، نتيجة سوء تقدير وقيادة القيصر الخاضع تماما إلى الحيل الشيطانية لراهب القصر راسبوتين، قد أسهم بشكل مباشر في القضاء على حكم عائلة رومانوف التي حكمت روسيا لأكثر من 300 سنة، وفتح الطريق ممهدا أمام الثورة البلشفية كي تحتل أسوار موسكو وتنقلب موازين الحكم لتصبح بيد الشعب وتعيش الثورة إلى حين.
من هو راسبوتين؟!
في قرية نائية فقيرة في أعماق سيبيريا ولد جرجوري يفموفيتش راسبوتين سنة 1869، وكان مولده شؤما على أهله، فقد توفيت والدته وهي تضعه، واحترق منزلهم وهو في سن الثالثة عشر، فنشأ نشأة مضطربة وما ان تجاوز سن المراهقة، حتى كون عصابة من أبناء قريته وأصبح قائدا لهم في عمليات السلب والنهب وقطع الطريق.
لم يمتلك راسبوتين قوى سحرية، لكنه حظي بقوة جسدية هائلة، فقد كان ضخم الجثة طويل القامة وعريض الصدر، له نظرات نافذة وصفت بانها تجعل من ينظر له يحني رأسه هربا من القوة الخفية المنبعثة من عينيه، وعلى هذا الأساس، استيقظ راسبوتين يوما ما وقرر أن يصبح راهبا.
ففي يوم ما، وبينما كان عائدا إلى منزله من إحدى سهراته الماجنة، سقط راسبوتين وشج رأسه بجذع شجرة، وحين أفاق ادعى ان ملاكا حمله معه إلى السماء ووهبه قوة لشفاء المرضى، وأعلن عن تخليه عن اللهو والفساد وقطع الطريق وقال بأنه وهب حياته لمساعدة الناس.
في بيئة يسودها الجهل والفقر وانعدام الموارد، كان من الطبيعي أن تطوي شهرة راسبوتين الافاق، فتحدث الناس عن قدرته العجائبية في شفاء المرضى، بعد ان استطاع في إحدى المرات ان يشفى امرأة كادت أن تهلك، بعد ان عجز الحكماء عن مداواتها.
وحين قدم راسبوتين، جلس حول سريرها وبدأ بالدعاء بصوت غير مفهوم ثم قام بالمسح على جسد المرأة بحركات متشنجة عصبية فحدثت المعجزة، ونهضت المرأة من فراشها كأنها لم تصب بسوء.
سنة 1905، شد راسبوتين الرحال إلى موسكو، بعد ان تمتع لسنوات بسمعة طيبة وغنائم أكبر من أبناء الفلاحين الفقراء، وذاع صيته كراهب معمّد له كرامات ومعجزات، بينما في الحقيقة، انضم راسبوتين الى طائفة سرية تدعى “خاليستي” تقر الجمع بين الورع والفسق شكلت أفكارها عماد فلسفة راسبوتين التي أدت للإطاحة بروسيا القيصرية فيما بعد.
في ذلك الوقت، كان نيكولا القيصر الروسي وزوجته ألكسندرا قد أنجبا أربع بنات، وصبيا اسمه أليكسي وهو ولي العهد، وكان ولد الإمبراطور مصابا بداء "الهيموفيليا" او “الناعور”، وهو مرض يمنع تخثر الدم حتى في أبسط الجروح، فيتعرض المصاب به لنزيف مستمر حتى الموت.
ورغم العناية التي كانت تحيط بولي العهد من قبل الخادمات حتى لا يصاب بأي جرح، إلا أن نزيفا باغته في إحدى الأيام، فاستعان الزوجان الملكيان بالعديد من الأطباء والمشعوذين لوقف نزيف ابنهما، لكن دون جدوى، وكان قبلها قد مات عدد من الأسرة الملكية جراء نفس المرض.
استطاع راسبوتين أن يشفي ولي العهد مؤقتا ببضع أعشاب مغلية والكثير من التعاويذ، وسرعان ما انتشر خبر شفاء ولي العهد في انحاء الإمبراطورية.
كان راسبوتين أيضا يتقن التنويم الإيحائي مستخدما صوته فقط، وكان يفعل هذا الأمر فعله وسط العامة، الذين يمجدونه كقديس ذي قدرات خارقة. ويقال إن راسبوتين استطاع وقف نزيف ولي العهد بفضل التنويم لا بفضل الأعشاب.
شفاء ولي العهد على يد راسبوتين، لم تكن المرة الوحيدة التي يستطيع من خلالها الراهب علاج مرضى كثر، فيحكى عنه أنه عالج علاّت كثيرة لأشخاص بوضع يده على مكان الألم، ما أكسبه عددا كبيرا من المريدين والمتوددين.
شاع عن راسبوتين أيضا قدرته العجيبة على التعرف على السارقين ومدبري الشر، ربما كانت هذه الميزة التي حافظت على حياته بالرغم من العديد من المؤامرات التي حيكت ضده من داخل البلاط لإبعاده عن الإمبراطور.
سنة 1915، دخلت روسيا الحرب مع الألمان، فيما كان راسبوتين يصول ويجول في البلاط حتى وصل لمنصب مستشار الامبراطورة الكسندرا، وتزايد اللغط حول التأثير السيء لراسبوتين على نيقولاي الثاني وزوجته، وتذمر النبلاء من إقصائهم من المشهد.
وفي الخارج، توالت توابيت الجنود الروس العائدين من الجبهة في التوافد على المملكة، أمام عجز روسيا عن التصدي لأحدث الأسلحة التي تمتع بها أعداؤها حينها، ولم تستطع تعاويذ راسبوتين ان تجلب النصر للجنود الخائفين من جبروت الالمان.
وانتشرت أقاويل عن خيانة داخلية وبالطبع كان المتهم الأول هو القيصرة ألمانية الأصل ومستشارها، لذا سريعا، اتفق النبلاء على تصفية راسبوتين تمهيدا للانقلاب على العرش وتنحية آل رومانوف. ورغم أن راسبوتين قتل في نهاية المطاف إلا ان مقتله بقي غامضا إلى الآن.
فبعد ان تناول راسبوتين حلوى مليئة بسم الزرنيخ في الوليمة التي دعاه إليها الأمير فيليكس كما أسلفنا، انتظر الامراء بصبر ان يسري فيه مفعول السم..
غير ان ساعات مضت وراسبوتين يضحك ويتكلم ويشرب وسط دهشة ورعب الأمراء المتزايدة، فما كان من الأمير فيليكس إلا أن اخرج مسدسه و اطلق عليه طلقتين، سقط بعدها راسبوتين وفرح النبلاء ظنا منهم انه مات..
غير أنه نهض بكل عزم وجرد سيفه ليقاتل ويشق طريقه خارجا، فأرداه الأمير فليكيس ب3 رصاصات أخرى ليسقط أرضا..
ثم قُيّد و حملته عربة إلى نهر نيافا المتجمد في مدينة بطرسبرج، وألقاه الخدم هناك، أين طفت جثته بعد يومين ، في اول شهر يناير من سنة 1917، السنة التي لم تنتهي إلا بسقوط أسرة رومانوف و حكم نيقولاي الثاني برمته، ليتم إعدامه هو وأسرته جميعها بعد سنة و نيف من مقتل راسبوتين.