بين حافظ وشوقي!
وُلد شاعرنا حافظ ابراهيم بأسيوط فقيرا، وعاش يتيما، غير أنه كان ذكيا سريع الحفظ، قوى البديهة.. انتقل مع والدته إلى القاهرة فتكفله خاله، ثم انتقل معه إلى طنطا.
غير أن خاله لم يصبر على نفقته، فغادر حافظ بيته، وترك له رسالة، فيها بيتين ظريفين من الشعر:
ثقلّت عليك مؤونتي…إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب…متوجه في داهية
وفي طنطا؛ عمل حافظ هناك بالمحاماة؛ رغم أنه لم يكن لديه مؤهل مناسب، فالمحاماة في وقته – وربما حتى الآن – لا تحتاج سوى لباقة وفصاحة وحُجة، غير أنه ترك المحاماة بعد أن خسر إحدى القضايا؛ وهدده (الموكل) بالقتل لو رآه في طنطا، فهجر طنطا وغادر إلى القاهرة، والتحق بالجيش وعمل ضابطا قبل أن يتم فصله فيما بعد، بسبب علاقته بمحمود سامي البارودي وزعماء الثورة العربية العائدين من منفاهم، وبسبب قصيدته الوطنية التي جاء فيها:
قَد مَرَّ عامٌ يا سُعادُ وَعامُ…وَاِبنُ الكِنانَةِ في حِماهُ يُضامُ
صَبّوا البَلاءَ عَلى العِبادِ فَنِصفُهُم…يَجبي البِلادَ وَنِصفُهُم حُكّامُ
أَشكو إِلى قَصرِ الدُبارَةِ ما جَنى…صِدقي الوَزيرُ وَما جَبى عَلّامُ
وارتبط حافظ إبراهيم بمحمود سامي البارودي، وسعى البارودي إلى توثيق العلاقة بين حافظ وشوقي؛ فاقترح أن يحدد بينهما لقاء وخاصة أن شوقي كان يرغب في لقاء حافظ، غير أن حافظ كان يرى أن شوقي هو (شاعر القصر) وأنه ليس بوطني، ولذا فقد رفض اقتراح البارودي، وقال: "لن أسعى إليه في قصره، كما أنه لن يرضي هو بأن يزورني في بيتي المتهدم".!
غير أنه التقى شوقي ذات ليلة، بإحدى قهاوى النيل بالقاهرة؛ حين كان يجلس حافظ مع شعراء بائسين ظرفاء مثله، وإذ بشوقي يمر بعربته من أمامهم فينادي على حافظ قائلا: يا حافظ أنا أحمد شوقي تعالى يا عزيزي
فيرد حافظ، قائلا: يا عزيزي أحمد شوقي، إذا كنت تريدني، فأقبل، واجلس معنا بين هؤلاء الظرفاء، فأنا لا حاجة لي عندك حتى آتيك إلى عربتك!
فرد شوقي: كما تريد يا أستاذ حافظ، إنه والله ليسعدني أن أجلس مع أساطين الفرح والفكاهة والشعر اللطيف في مصر.
واستمرت العلاقة بين حافظ وشوقي فيما بعد، إنسانية حينا، وذات سجالات شعرية أحيانا، وبعد أن نُفي شوقي إلى أشبيلية بالأندلس، وفي إحدى الأيام أرسل رسالة إلى حافظ، بعنوان: من الغائب إلى المقيم (أي من شوقي الغائب إلى حافظ المقيم بمصر)، وبداخلها قصيدة من ثلاثة أبيات، يقول فيها:
يا ساكني مصر إنا لا نزال على…عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركم…شيئا نبل به أحشاء صادينا
كل المناهل بعد النيل آسنة…ما أبعد النيل إلا عن أمانينا
فشعر حافظ بمدى حنين شوقي إلى مصر، ورد عليه بقصيدة من ثلاثة أبيات أيضا، عنوانها: (من المقيم إلى الغائب)، قال فيها:
عَجِبتُ لِلنيلِ يَدري أَنَّ بُلبُلَهُ…صادٍ وَيَسقي رُبا مِصرٍ وَيَسقينا
وَاللَهِ ما طابَ لِلأَصحابِ مَورِدُهُ…وَلا اِرتَضَوا بَعدَكُم مِن عَيشِهِم لينا
لَم تَنأَ عَنهُ وَإِن فارَقتَ شاطِئَهُ…وَقَد نَأَينا وَإِن كُنّا مُقيمينا
بعد ذلك عمل حافظ مديرا لدار الكتب، وخلال عمله في الدار، قل إنتاجه الأدبي. ثم بلغ به الحزن مبلغه بعد أن مات عدد من أصدقائه، ثم مرض مرضَ الموت، وفي يوم الـ 21 من يونيو عام 1932 فاضت روحه إلى باريها؛ ودُفن بمقابر السيدة نفيسة عند جبل المقطم بالقاهرة! (في طريقها للهدم الآن، اذا لم تكن هدمت فعلا)
كان شوقي في الإسكندرية حين توفي حافظ، فرفض سكرتيره أن يبلغه كي لا يحزن، وبعد ثلاثة أيام، علم شوقي بالنبأ فحزن حزنا شديدا، وقال:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي…يا منصف الموتى من الأحياء
وبعد أقل من 4 أشهر لحق شوقي بحافظ ودفن أيضا بالسيدة نفيسة (قبره ايضا مهدد بالهدم)
رحمة الله عليهما.
(الصورة للشاعرين: أحمد شوقي يضع قدما على أخرى، وحافظ إبراهيم يمسك بعصاه)
بقلم الدكتور: حسين دقلي.